بطلها باشا المدينة " ابن البغدادي " الذي كان معروفا بذكائه و دهائه ، و بُعد نظره في شؤون الحُكم ، وخبرته بطبائع الناس و أخلاقهم ، بحيث يمكن أن نسميه بلُغة اليوم خبيراً نفسياً.
جلس " ابن البغدادي " ، ذات يوم في محكمته ، ينظر في شؤون الناس ، و شكواهم ، فسمع صياح امرأة تطلب مقابلته ، فأمر أعوانه بإدخالها .
و ما إن مثلت بين يديه حتى انهارت أمامه تبكي بحرقة و تردد :
_ صُرّتي ..! صُرّتي ، يا سيدي الباشا . سرقوا مني متاع الناس . سرقوا مني ذهب الناس ، و جواهرهم وخرّبوا حياتي!
[caption id="attachment_2412" align="aligncenter" width="400"]

_ فأخذ الباشا "ابن البغدادي " يُهدئ من روعها ، و طلب منها أن تحكي له ما حدث بالتفصيل ، فقالت :
أنا يا سيدي ، كما تعلم ماشطة ( نكافة ) ، أكْتَري الحُلِي من العائلات ، و أزين به العرائس عند زفافهن. و بالأمس كنت عائدة من حفلة عُرس ، في ساعة متأخرة من الليل، و غلبني التعب و النوم ، فقعدت على عتبة دار أستريح ،فقاطعها الباشاسائلا :
- أين كان ذلك ؟
- في نهاية عقبة زنقة " الرْطل " قرب سيدي النالي...وغلبني النعاس ، فغفوت قليلا ، و حين أفقت بحثت عن صُرة الحلي التي كانت على وجه قفتي فلم أجدها.
وانخرطت مرة أخرى في البكاء و العويل، و هي تقول :
- أخذوا الصرة يا سيدي بكل ما فيها من أمانات الناس، كيف سأرد لهم أماناتهم؟ من أين لي الأموال لتعويض ما ضاع ، يا سيدي ؟
فسألها الباشا :
- هل رأيْتِ أحداً يتبعك ؟
- لا يا سيدي ، الشوارع كانت خالية تُصفر .
- هل تشكين في أحد ؟
- لا يا سيدي ، حرام أن أتهم أحداً ظلما و بغير علم .
قومي الآن ، و اذهبي الى دارك حتى أرسل في طلبك.
و في عصر ذلك اليوم ، أمر الباشا بإسراح بغلته، و إعداد موكبه المهيب الذي كان ينتقل فيه بين داره و المحكمة ، و توجه الى " عقبة زنقة الرطل " ، و تقدمه الأعوان " المخزنية " يشقون لها الطريق بضجة كبيرة .
و حين وصل الى المكان . ترجل عن بغلته و نظر حوليه بعينيه الثاقبتين الذكيتين ، كرجل مباحث مدرب.ثم صعد السلم الى مدرسة قرآنية هناك ، ووقف له الفقيه ، معلم الأطفال احتراماو تبجيلا ، و قد اختلط في نفسه الفخر بزيارة الباشا العظيم له في مسيده المنسي. و الخوف من أن يكون فعل ما أغضب الباشا دون أن يدري. و بادر الباشا الى طمأنته بالسلام عليه . و الجلوس الى جانبه على حشيته ، ووضع في يده مبلغا من المال ، و التمس منه أن يطلب الصبيان قراءة الفاتحة على روح والديه.
و بينما الأطفال يقرؤون اقترب الباشا من المعلم و همس في أُ ذنه:
- ستحرر الأطفال و تنتظر هنا و أول شخص يجيئ إليك يسألك عن سبب زيارتي لك ، أخبرني به و قُل له إنني جئت من أجل الفاتحة و تحرير الصبيان .
و عاد الباشا الى المحكمة في موكبه الضخم ، متأكداً من أنه لم يبق أحد دون أن يعلم بزيارته للمسيد .
و في ذلك المساء طرق عليه باب داره فقيه المسيد فخرج إليه بنفسه، و أخبره الفقيه بأن أول شخص دخل عليه كان السيد ( فلان ) ، وهو شخص محترم معروف في المدينة ، و من جُلساء الباشا.
و طلب " ابن البغدادي " من الفقيه أن يحتفظ بالسر بينهما، فأقسم له الفقيه أن يعمل .
وفي اليوم التالي تعمد الباشا أن يمر بموكبه على دكان أحد جلسائه .و خرج الرجل للسلام عليه ،فحياه الباشا بحرارة ، و عاتبه على عدم زيارته له، و طلب منه القدوم، هو و جماعته إليه.وكان من بين الجماعة الرجل المشبوه الذي ذكره له فقيه المسيد. وفي ذلك المساء قدمت جماعة الجلساء الى دار الباشا،فرحب بهم، و أمر بالشاي، و تبسط معهم في الحديث حتى استأنسوا. وحين حضر الشاي طلب الباشا من الرجل المشبوه " جوزة طابته " فمدها إليه مسروراً،فاستل الباشا سدادها الفضي الشبيه بمرود الكحل ، و أفرغ منها فوق ظهر يده اليسرى قليلا من مسحوق طابا الأخضر ، و استنشقه بنشوة و الْتِدَاد ، و عطس عطسة قوية هزت بدنه الضخم ، و حمِد الله، فقال الجميع : " يرحمك الله ".
و أثنى على جودة صنف " طابته " ، و وضع الجوزة تحت رُكبته ، و شغل جُلساءه بحديث شيق طويل .
و كان قد اتفق مع عَوْنِه ، المخزني المعروف " بابن عتروس " ، على ما يفعله ، فتظاهر المخزني بأنه يضع شيئا أمام الباشا،و أخذ الجوزة من تحت رُكبته دون أن يشعر صاحبها و خرج.
و انطلق " ابن عتروس" يخترق أزقة المدينة الملتوية حتى وصل الى منزل الرجل المشبوه،فطرق بابه و انتظر ،حتى سمع صوت امرأة تسأل من ورائه " من" ؟
فأجاب : " قريب " .جئتك من سيدي الحاج ( فلان ) بهذه الأمانة ، و تحرك المزلاج، و انفتح الباب قليلا، فمد يده الى السيدة بالجوزة دون أن ينظر إليها،قائلا بأدب جم : " أرسلني سيدي الحاج لآخذ إليه الأمانة التي جاء بها بالأمس. و هذه هي الأمارة" وخرجت يد المرأة فأمسكت بالجوزة ،و نظرت إليها فعرفتها في الحال ، و قالت: " انتظر قليلا من فضلك " .
و دخلت ثم عادت إليه بصُرة الحلي التي ضاعت من الماشطة " النكافة " ، فأخذها و الجوزة ، و عاد بنفس السرعة حتى دخل على الباشا و وقف .
و أمره الباشا بوضع الصرة أمامه على مرأى من الحاضرين جميعاً.و أرسل في طلب الماشطة التي كانت تنتظر بالخارج.
و لما رأى جليسه السارق الصرة كاد يغمى عليه من المفاجأة و الفزع و الحرج و الخجل و العار....
و دخلت الماشطة " النكافة " فسألها الباشا : " أهذه هي صرتك؟ "
و بنظرة واحدة الى الصرة عرفتها ، و أشرق وجهها بابتسامة مضيئة ، و قالت: " نعم: يا سيدي الباشا " و طلب منها الباشا أن تصف محتوياتها ففعلت بدقة العارفة .
و أمر بفتحها و التأكد من أوصاف الماشطة ، ففتحها " ابن عتروس " ، و عرضها على أنظار الباشا ، فأمره بتسليمها الى المرأة.
و أمسكت الماشطة بالصرة و هي لا تكاد تُصدق. و غلبها الشعور بالإمتنان فأسرعت نحو الباشا " ابن البغدادي " و انكبت على رُكبتيه و يديه تُقبلها ، و تدعو له بطول العمر و البقاء و عُلو المقام .
و حين خرجت عاد الى حديثه مع جُلسائه و كأن شيئا لم يقع .
و أعاد " ابن عتروس " الجوزة الى مكانها تحت رُكبة الباشا ، فتناولها هذا الأخير و أفرغ منها ، مرة أخرى ، على ظهر يده، و استنشق المسحوق الأخضر بشهية ، ثم عطس و و قف ، فوقف جُلساؤه. و سلم الجوزة لصاحبها السارق دون أن ينبس بكلمة غير كلمات الشكر . و و دعهم واحداً واحداً ، و انصرف.
و عاد السارق الى داره ، فدخلها و لم يخرج ، بعد ذلك ، الى أن أخرجوه ميتاً الى مقره الأخير. فقد أصيب بالشلل النصفي في تلك الليلة.
كان ذلك عقابه على فعلته الشنيعة . فقد كان الباشا الذكي يعرف أنه لم يجرؤ على الظهور بين الناس بعد فعلته تلك أبداً.فلم ينزل به عقاباً ، بل تركه يعاقب نفسه بنفسه.
المصدر : مجلة الحدائق ، نونبر 1983 ، التي كانت تصدرها وزارة الثقافة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق